لم يعد الخوف مجرد عرض جانبي لحكم الطغاة والمستبدين، وربما لم يكن كذلك يومًا ما، يبدو الخوف صناعة تحترفها الأنظمة الاستبدادية، وكأنها دليل تسير عليه هذه النظم سواء كانت ديكتاتوريات عسكرية أو مدنية، عددت ناعومي وولف في مقال مطول لها بجريدة الجارديان عام 2007 أهم مفردات ما أسمته بـ “تصنيع الفاشية”، أو ما بات يطلق عليه اليوم “صناعة الخوف”، والتي تعد امتدادًا طبيعيًّا لقاعدة ميكافيللي الذهبية التي يبدو أن سياسيي العالم قد صاروا يعنوها جيدًا “من الأفضل أن يهابك الناس على أن يحبونك”.
يبدو أن الأمر لم يعد مقتصرًا على الحكومات الاستبدادية التقليدية، يبدو أن تواطئًا ما قد حدث من جميع الحكومات – حتى الديمقراطية منها- أن الأمور لا يمكن أن تسير على ما يرام إلا إذا شعرت الشعوب بالخوف دائمًا.
1- استدعاء الأعداء الداخليين والخارجيين
لا يمكن للطغاة نشر الخوف في صفوف الجماهير دون تجسيد هذا الخوف في صورة أعداء داخليين وخارجيين، عندما يخاف الناس فإنهم يكونون أكثر استعدادًا لقبول إجراءات تنتقص من حرياتهم الشخصية، بل حتى من مقومات حياتهم الأساسية، ففي الوقت الذي كان يلتسن يقصف فيه البرلمان بالدبابات كان يمرر القرارات الاقتصادية التي أفقرت الشعب الروسي وأدت إلى إفلاسه، وفعل بينوشيه الشيء ذاته، وهو يعلن حربه على الشيوعية، بل إن قانون الباتريوت الأمريكي المشبوه الذي سلب الأمريكيين حرياتهم الشخصية قد تم تمريره في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتحديدًا في 26 أكتوبر، تحت مبرر الاستعداد للحرب على الإرهاب، لينكولن نفسه فرض الأحكام العرفية أثناء الحرب الأهلية، حريق الرايخستاج في 27 فبراير 1933 الذي تزامن مع إعلان الحرب ضد الشيوعية تم اتخاذه كذريعة لقمع الشيوعيين الألمان والحزب الشيوعي الألماني.
إنها الخطة القديمة الجديدة، خلق تهديد مرعب وغير مفهوم بشكل كبير “خطر الإرهاب- الشيوعية- المؤامرات الخارجية”، تذكر دائمًا الحقيقة السابقة: “الناس لديهم الاستعداد للتضحية بقدر كبير من حريتهم إذا شعروا أنهم في خطر حقيقي، بل الأنكى هو حجم استعدادهم لتقبل الممارسات الدموية للسلطة ما دامت تتم في حق غيرهم”.
2- إنشاء شبكة خاصة للقمع
والمقصود هنا هو القمع خارج دائرة القانون، بل خارج دائرة الرقابة، بالتحديد كما وصف بوش سجن جوانتنامو الشهير أنه يقع “في الفضاء القانوني”، الشهادات حول حالات التعذيب في السجون التي تديرها الولايات المتحدة حول العالم خارج إطار السيطرة، هناك دوائر شبه رسمية أمريكية صارت تقر الآن بهذه الحقيقية، إذا تجاوزنا بالطبع جوانتنامو الذي أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن رغبته في إغلاقه بسبب سمعته السيئة، فهو من أشهر السجون، ولكنه ليس الوحيد بالطبع على الأقل في الأماكن التي وقعت تحت سيطرة القوات الأمريكية كأفغانستان والعراق – راجع فضيحة سجن أبي غريب على سبيل المثال-.
تشير الوقائع التاريخية أن جميع الأنظمة الاستبدادية كانت تميل للاحتفاظ بشبكة سرية من السجون، تمارس من خلالها أنشطة غير مشروعة، أشهرها التعذيب لأجل انتزاع المعلومات، وهوما يفضي كثيرًا إلى القتل، وأحيانًا الإعدام الجماعي، كما حدث في تشيلي وسوريا مؤخرًا، وأحيانًا اغتصاب النساء الذي اشتهرت به الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين.
3- استخدام شبكات للمسلحين
يخبرنا تاريخ الأنظمة الديكتاتورية أنها لا تكتفي بنشر الخوف عبر الأجهزة الأمنية الرسمية والسرية، لكنها غالبًا ما تشكل مجموعات شبه عسكرية لترويع مواطنيها أو تدعم – على الأقل تغض الطرف- عن نشاط بعض هذه المجموعات الموجودة سلفًا، بداية من مجموعات القمصان السوداء في إيطاليا الفاشية، إلى القمصان البنية في ألمانيا النازية، نفس الاستراتيجية استخدمت في نيكاراجوا وفي أمريكا الجنوبية، وغالبًا ما تعمل هذه التنظيمات في ظل حصانة قانونية.
بعد أحداث 11 سبتمبر الشهيرة وما يعرف بالحرب على الإرهاب، توسعت شبكات المسلحين المرتزقة واتخذت إطارًا أكثر نظامية تحت مسمى شركات الأمن الخاص، وأشهرها بلاك ووترز، التي حصلت على عقود بملايين الدولارات من حكومة الولايات المتحدة وغيرها، مقابل الاهتمام بأعمال أمنية مشبوهة، مثل أعمال الاغتيالات والتصفية الجماعية التي قامت بها بلاك ووترز في عهد الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر، تحت حصانة كاملة من الملاحقة القضائية.
بعد إعصار كاترينا، استأجرت وزارة الأمن الداخلي الأمريكية مئات من حراس الأمن الخاص المسلح في نيو أورليانز، الصحفي جيرمي سكاهيل – صاحب كتاب الحروب القذرة- أجرى مقابلات مع أحد الحراس الذي لم يكشف عن اسمه، والذي أفاد بأنهم أطلقوا النار على المدنيين العزل في المدينة.
4- ينبغي أن يشعر الجميع أنهم مراقبون
تشترك هذه الأنظمة في إنشائها جهازًا للشرطة السرية – على اختلاف التسمية-، بدءًا من ألمانيا وإيطاليا إلى الصين وكوريا الشمالية، حتى في الولايات المتحدة، ففي عام 2005 كتب جيمس رايزن وكتب إريك يشتبلو في صحيفة نيويورك تايمز لأول مرة حول برنامج أمريكي للتجسس على هواتف المواطنين، وهي المعلومات التي لم تعد قابلة للتشكيك بعد فضائح التنصت والرقابة التي تورطت فيها المخابرات الأمريكية بحق مواطنيها ومواطني دول العالم ورؤسائها، حتى الحليفة للولايات المتحدة، والتي كشفت عنها وثائق إدوارد سنودن.
الأخ الكبير يراقبك، الأنظمة تعي نبوءة جورج أوريل جيدًا، تذكر أن الناس مولعون دومًا بنسج الأساطير حول قدرات ونشاطات أجهزة الأمن السرية، أما عن الأسباب فهي جاهزة دومًا وتتعلق بدواعي الأمن القومي والحفاظ على سلامة المواطنين.
5- السيطرة على المؤسسات الدينية- الأحزاب- الجماعات
قد تكون في وقت ما في حاجة لمن يدعو الناس إلى السلام باعتباره فضيلة كبرى، وفي وقت آخر قد تكون الحرب هي الفضيلة، لا أحد بإمكانه أن ينشر الخوف في دور الجماهير كرجال الدين رغم كل شيء.
في جمهوريات الخوف، ربما تجد أغلب الجماعات والأحزاب مخترقة من قبل السلطة، حتى تلك التي تعمل في شئون البيئة ورعاية الحيوان، إذا جئت إلى الجمعيات الحقوقية والجمعيات المناهضة للحرب وغير ذلك من المؤسسات تصبح الأمور أكثر خطورة، مهما كانت مساحة الحرية، يجب أن يشعر الجميع أن الأمور تحت السيطرة.
6- لعبة الاعتقال- الإفراج
أو كما يطلق عليها لعبة القط والفأر، الصحفيان نيكولاس كريستوف وشيريل وودن وصفا الأمر أثناء دراستهما للمعارضة في الصين بكونها تشبه القائمة، يتم استهداف هذه القائمة مع كل حدث، إذا كنت داخل القائمة في يوم ما فمن الصعب عليك أن تصبح خارجها.
في عام 2004، أعلنت الولايات المتحدة لأول مرة أنها تحتفظ بقوائم لأسماء الركاب الذين تعرضوا للتفتيش الأمني في المطارات والموانئ، لم تكن القائمة من المجرمين، ولكن من نشطاء السلام وبعض الرموز من دول تعتبرها الولايات المتحدة معادية – كفنزويلا مثلاً- والكثير من المواطنين العاديين، والكثير من الأمريكيين منهم رموزأكاديمية فوجئوا بوضع أسمائهم على قوائم الاشتباه في محاربة الإرهاب، منهم على سبيل المثال البروفيسور والتر ميرفي من جامعة برينستون، الذي لم يكن له أي نشاط سياسي سوى أنه انتقد جورج بوش، واتهمه بانتهاك الدستور في أحد محاضراته.
جيمس بي، براندون ما يفيلد، والعديد من الأسماء الأخرى التي اعتقالها تعسفيًّا، ولم يتم إدانتها، وما تزال أسماؤهم موضوعة على القوائم، أسلوب القوائم هذا صار معتمدًا على مستويات ونطاقات أقل، فكل وحدة للبوليس صارت تحتفظ بقوائمها الخاصة للاعتقال، وما تزال لعبة القط والفأر تتوسع يومًا بعد يوم، اعتقله، أفرج عنه، لكن عليه أن يعلم أنه معرض للاعتقال في أي لحظة.
7- استهداف الرموز
غالبًا ما تحيط الجماهير الرموز بهالة من التقدير والقداسة، استهداف الرموز المشاغبة – المعارضة من فنانين وأكاديميين وصحفيين ورؤساء أحزاب وجماعات ورجال دين- يجعل الناس يشعرون أن الجميع مهددون، وأنه لا سقف للسلطة في الحفاظ على مصالحها.
قام موسيليني باستبعاد كل الأكاديميين وعمداء المعاهد الحكومية الذين رفضوا التجاوب مع خطته الفاشية، الأمر ذاته فعله هتلر في ألمانيا وبينوشيه في تشيلي، والحزب الشيوعي في الصين، فامتد القمع ليطال المتعاطفين من هؤلاء الأكاديميين مع زملائهم وطلابهم.
إعادة هيكلة المؤسسات التعليمية ومؤسسات الخدمة المدنية بإصدار قوانين تتوافق مع توجهات السلطة، فينبغي أن يشعر الأكاديميون أنهم يدينون إلى السلطة أكثر من أي شيء آخر، لأنها تملك إبقاءهم في مناصبهم أو ترقيتهم أو استبعادهم بشكل كامل، أوحتى إيداعهم في السجون.
8- السيطرة على الصحافة- التليفزيون
لا يمكن للدولة أن تسيطر على الناس بحق دون أن تحكم السيطرة على ما يلقى في عقولهم، جميع الديكتاتوريات فعلت ذلك بداية من إيطاليا في العشرينات، وألمانيا في الثلاثينات، وألمانيا الشرقية في الخمسينيات، وتشيكوسلوفاكيا وديكتاتوريات الشرق الأوسط العسكرية في الستينيات، وديكتاتوريات أمريكا الجنوبية في السبعينيات، والصين وروسيا، وغيرها الكثير.
الحقيقة هي العدو الأول، لا حصانة لأحد فالجميع مستهدف حتى لو كنت صحفيًّا، حتى في أكثر الدول ادعاء للديمقراطية، الولايات المتحدة نفسها، هل سمعت بالمدون جوش وولف من سان فرانسيسكو الذي سجن لمدة عام لرفضه تسليم شريط مظاهرة مناهضة للحرب؟ أم لعلك سمعت عن مراسل جريج بالاست، الذي اتهم بتهديد البنية التحتية عبر تصويره لضحايا إعصار كاترينا في ولاية لويزيانا، أو ربما أنك سمعت بقصة الصحفي جوزيف ويلسون الذي اتهم جورج بوش بتلفيق اتهامات كاذبة لصدام حسين؛ لتبرير الحرب على العراق أبرزها استيراد اليورانيوم من النيجر؛ فكان نصيبه توجيه تهمة التجسس لزوجته! كما تم توثيق أكثر من حالة سجن واستهداف للصحفيين من قبل الجيش الأمريكي أثناء الحرب على العراق.
قانون مقيد للإعلام والصحافة تحت دعوى مقتضيات الأمن القومي، أوحتى تحت دعوى ضمان حرية الصحافة، المهم هو السيطرة على ما يقدم للناس، لا مانع من مساحة لرأي معارض بشرط أن يكون مستأنسًا، وتحت السيطرة.
9- توسيع دائرة الخيانة- العمالة
لا يمكن أن يتعاطف الناس مع خائن أو عميل يعمل ضد مصلحة بلده، أو يتعاون مع أعدائها، المهم أن تتسع تهم الخيانة والتجسس لتصبح فضفاضة إلى أقصى قدر ممكن، على سبيل المثال اتهم النواب الجمهوريون في الكونجرس الصحفي بيل كيلر بانتهاك قانون التجسس؛ لنشره معلومات مسيئة لإدارة الرئيس جورج بوش، الأمر ليس جديدًا بالطبع ففي موسكو، وتحديدًا في عام 1938، تم توجيه تهمة الخيانة إلى نيكولاي بوخارين رئيس تحرير صحيفة أزفاستيا، كان ستالين يلقب معارضيه دوما بـ “أعداء الشعب”، بل إن الولايات المتحدة في عام 2006، ومع إقرار قانون اللجان العسكرية صار من حق الإدارة الأمريكية توجيه لقب- اتهام “مقاتل عدو” إلى أي من مواطنيها.
الخلاصة أن تهم “الخيانة- العمالة- التجسس- التخابر” يجب أن تظل تلاحق الجميع، بداية من القادة والمعارضين السياسيين، إلى النشطاء المزعجين عبر الإنترنت.
10- القوانين الاستثنائية
يمكن للحكومات أن تتحدث عن سيادة القانون كما شاءت، في النهاية فهي التي تضع القوانين، الحكومة الأمريكية مررت قانون الباتريوت، الذي يبيح لها التجسس على مواطنيها، وفي النهاية وسعت نشاطاتها خلافًا له، كما تجند الحكومات الجنود المرتزقة وفقًا للقانون، وتحاكم معارضيها بتهم مزرية وفقًا للقانون أيضًا، بل تم استصدار قوانين تبيح قتل فئة من المواطنين فقط لأنهم عديمي النفع كما حدث في ألمانيا النازية مثلاً.
ما يعرف بـ “حالة الطوارئ” أو “حالة الحرب”، أصبح ستارًا تتخذه الحكومات لتمرير أي إجراءات. كم يمكن أن تستمر حالة الطوارئ هذه؟ أشهر، أو سنوات، وربما عقود أحيانًا.
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء