نُدرك جميعاً عندما يقوم الكاتب بتأليف كتابٍ ما فهو يُحاول من خلال كتابه هذا أن يُعالج مُشكلةً، أو يبحث في موضوع معين، أو يحاولُ أن يُوصل للقراء أفكاره ومعتقداته وتحليلاته حول قضيةٍ محددة..
أي إنه وباختصار نعرف إن لكل كتاب فكرة ومغزى من تأليفه (بغض النظر عن إيجابية الفكرة أو سلبيتها). فكرةٌ يدركها العقل البشري ويقدر على قراءتها وفهمها.
ولكن على مر التاريخ صدرت وظهرت بعض الكتب المحدودة الغريبة العجيبة، التي شكّلت مصدراً للاستغراب والدهشة عند البشر، كتب كانت مشفرة المعنى والتفسير استصعب على العقل حل لغزها ومعرفة معناها وإدراك السبب وراء تأليفها. كتب كانت ولا زالت غير مقروءة ولا مفهومة وبعضها ربما لم يكن يحمل بين طياته أي معانٍ أو أفكار أو قضايا.
ومن هذه الكتب ولعل من أكثرها غرابة وغموضاً على مر التاريخ هو مخطوطة سيرافيني..
هذا الكتاب الفني الساحر الذي لا يشبه أيّاً من كتب الفنون الأخرى، والذي بمجرد رؤيته والتجول بين صفحاته يعتقد الواحد منا بانه كتابٌ قديم جداً يعود لعصور وعهود قد خلت رغم حداثته، كتابٌ يخبئ بين صفحاته عالماً خيالياً مثير للإعجاب.
مخطوطة سيرافيني كتاب خيالي مشفر بكل ما فيه، ألّفه الفنان والمصمم والمهندس المعماري الإيطالي لويجي سيرافيني المولود في روما سنة 1949، حيث شرع في تأليفه وتصميمه وهو في السابعة والعشرين فقط من عمره سنة 1976 ليستغرق معه ثلاثة سنوات، ولتُنشر بعد ذلك ولأول مرة عام 1981 في مجلدين كبيرين من قبل الناشر فرانكو ماريا ريتشي.
عدَّ هذا الكتاب عند نشره واحداً من أغلى الكتب في العالم حيث بلغ سعر النسخة الورقية الواحدة منه 2000 دولار. ولكن وبعد زيادة الطلب عليه وارتفاع شعبيته تم صياغته من جديد وإعادة نشره بسعر أقل مقارنة مع السعر الأولي له وهو 125 دولار فقط، ليصبح بذلك في متناول أعدادٍ ليست بقليلة من القراء ومحبي الفنون وعشاق الغرائب.
“مخطوطة سيرافيني” كُتِبَت بلغةٍ وأبجدية غريبة مشفرة، لم تكن موجودة من قبل وليست موجودة في يومنا هذا في أي مكان على كوكب الأرض، أبجدية مخترعة من عقل الكاتب بشكل كامل، لا يمكن قراءتها ولا حتى فهم معانيها، الأمر الذي أضفى على الكتاب أهميةً وزاد من درجة غرابته.
الكتاب مكوّن من 360 صفحة مقسمة على أحد عشر فصلاً، كل فصل من فصولها يصوّر جانباً من جوانب الحياة في عالم سيرافيني الخرافي الخيالي الذي ابتكره..
فالفصل الأول فيه مخصص لعالم النباتات والذي يحوي على أنواع غريبة ليس لها نظير في دنيانا، والفصل الثاني مخصص لعالم الحيوانات والذي أيضاً يضم مجموعات عجيبة من الحيوانات التي ليس لها وجود في كوكب الأرض، والفصل الثالث يصوّر مخلوقات ثنائية القدمين كالبشر تعيش بينهم ومعهم..
والفصل الرابع يبحث في مجال الفيزياء، أما الخامس فيدور حول آلات واختراعات ذو أشكال هندسية معقدة تؤدي وظائف غير معروفة، والفصل السادس مخصص في علم الأحياء وتشريح الجسم البشري بشكل غريب، في حين أن السابع يبحث في تاريخ ذلك العالم الخرافي..
والثامن منه يدور حول الكتابة وأدواتها وأساليبها، والتاسع حول المأكولات في ذلك العالم وأزيائها، أما العاشر فيشرح الألعاب وطرق الترفيه هناك، لينتهي بفصل يضم مشاريع معمارية وأفكار هندسية.
صفحات الكتاب مزينة برسومات وصور مرسومة من قبل الفنان لويجي سيرافيني بقلم رصاص ملون، رسومات غريبة من وحي عقله لا توحي بشي رأيناه مسبقاً، رسومات بعضها تثير في الإنسان مشاعر الرهبة والخوف، وإلى جانبها نصوص تشرح ما هيّتها وما ترمز إليه، ولكنها مكتوبة باللغة التي قام بابتكارها. مما يجعل من غير الممكن فهمها.
أي أنه كل ما في الكتاب لغز ابتداءً من الغلاف حتى آخر صفحة فيه، ولكن برؤيتها ورؤية الطريقة التي تم تصميمها وتأليفها يعتقد الناظر إليها بأنه لابدّ أن يكون لكل شيء فيه معنى، وهذا ما دفع بعض الناس إلى تكريس وقتهم لفهمه، فالفنانون حاولوا دراسة الرسومات التي فيه..
والفلاسفة فكروا كثيراً في معنى النصوص التي تحويه، وخبراء فكّ التشفير جرّبوا مراتٍ عديدة حل اللغز الذي بُني عليه، ولكن دون جدوى. وكل هذا كان رغم إن المصمم نفسه كان قد صرّح مراتٍ ومراتٍ إنه لا معنى من كتابه، ولا لغزٌ يحتاج إلى حلّه يختبئ ورائه. وإنما هو مجرد “لعبة”.
وأوضح المصمم في لقاء له مع مجلة وايريد الإيطالية بأنه أراد بنشره لهذه الرسومات والأشكال بهذا الشكل وضمن كتاب الوصول إلى أكبر عدد من الجماهير، والخروج من الدائرة المغلقة الضيقة للفن والشكل التقليدي للمعارض الفنية. ويقول: (إنك في الكتاب ترى ما تريد أن تراه، ربما تعتقد إنه يُحدِّثك ولكن هذا مجرد خيال).
وحول ما كان يهدف إليه من خلال الأبجدية المبتكرة التي استخدمها في الكتاب يقول: (ما أردّته من خلال الأبجدية التي استخدمتها هو إيصال ذلك الإحساس الذي يشعر به الأطفال وبيديهم كتاب لا يفهمونه للقارئ، لقد استخدمته لوصف عالم خيالي، والرسومات أيضاً نشأت من الصدام بين هذه الكلمات الوهمية والعالم الحقيقي).
ويردف قائلاً: (إن هذه المخطوطة قد أصبحت محببة للجماهير ومرغوبة من قبلهم لأنها تجعلك تشعر براحة أكثر مع خيالك، ووجود عالم آخر مستحيل ولكن وجود عالم خيالي قد يكون ممكناً).
الكتاب قد لا يحمل بين طيّاته وصفحاته أيةَ معاني، قد لا يكون ذا مغزى وهدف، ولكن رغم ذلك يُعتبر إبداعاً عقلياً ليس له مثيل، إبداعاً فنيّاً رائعاً يأخذ الناظر إليه والباحث فيه في رحلة خيالية رائعة، رحلة إلى عالم مبتكر بكل ما فيه من تفاصيل صغيرة، رحلة ممتعة مع رسومات غريبة تثير الدهشة أحياناً والرهبة والخوف أحياناً أخرى.
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء